فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وقال لهم نبيهم إِن الله قد بعث لكم طالوت ملكًا} ذكر أهل التفسير أن نبي بني إسرائيل سأل الله أن يبعث لهم ملكًا، فأتى بعصا وقرن فيه دهن، وقيل له: إن صاحبكم الذي يكون ملكًا يكون طوله طول هذه العصا، ومتى دخل عليك رجل، فنشق الدهن، فهو الملك، فادهن به رأسه، وملكه على بني إسرائيل، فقاس القوم أنفسهم بالعصا، فلم يكونوا على مقدارها.
قال عكرمة، والسدي: كان طالوت سقاءً يسقي على حمار له، فضلَّ حماره، فخرج يطلبه، وقال وهب: بل كان دباغًا يعمل الأدم، فضلت حمرٌ لأبيه، فأرسل مع غلام له في طلبها، فمرا ببيت شمويل النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلا ليسألاه عن ضالتهما، فنشق الدهن، فقام شمويل فقاس طالوت بالعصا، وكان على مقدارها، فدهنه، ثم قال له: أنت ملك بني إسرائيل، فقال طالوت: أما علمت أن وسطي أدنى أسباط بني إسرائيل، وبيتي أدنى بيوتهم؟ قال: بلى، قال فبأية آية؟ قال بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره، فكان كما قال. اهـ.

.قال أبو حيان:

قول النبي لهم: إن الله قد بعث، لا يكون إلاَّ بوحي، لأنهم سألوه أن يبعث لهم ملكًا يقاتل في سبيل الله، فأخبر ذلك النبي أن الله قد بعثه، فيحتمل أن يكون ذلك بسؤال من النبيّ الله أن يبعثه ويحتمل أن يكون ذلك بغير سؤاله، بل لما علم حاجتهم إليه بعثه. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا} أي كيف يملكنا ونحن أحق بالملك منه؟.
جَروا على سنّتهم في تَعْنِيتهم الأنبياء وحَيْدهم عن أمر الله تعالى فقالوا: أَني أيْ من أيّ جهة، فأَنّي في موضع نصب على الظرف، ونحن من سِبط الملوك وهو ليس كذلك وهو فقير، فتركوا السبب الأقوى وهو قَدَر الله تعالى وقضاؤه السابق. اهـ.

.قال أبو حيان:

{قالوا أنَّى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال} هذا كلام من تعنتَ وحادَ عن أمر الله، وهي عادة بني اسرائيل، فكان ينبغي لهم إذ قال لهم النبي عن الله: {إن الله قد بعث لكم طالوت ملكًا} أن يسلموا لأمر الله، ولا تنكره قلوبهم، ولا يتعجبوا من ذلك، ففي المقادير أسرار لا تدرك، فقالوا: كيف يملك علينا من هو دوننا.
ليس من بيت الملك الذي هو سبط يهوذا.
ومنه داود وسليمان؟ وليس من بيت النبوّة الذي هو سبط لاوي ومنه موسى وهارون؟ قال ابن السائب: وكان سبط طالوت قد عملوا ذنبًا عظيمًا، نكحوا النساء نهارًا على ظهر الطريق، فغضب الله عليهم، فنزع النبوّة والملك منهم، وكانوا يسمون سبط الإثم.
وفي قولهم: {أنى يكون له الملك علينا} إلى آخره ما يدل على أنه مركوز في الطباع أن لا يقدم المفضول على الفاضل، واستحقار من كان غير موسع عليه، فاستبعدوا أن يتملك عليهم من هم أحق بالملك منه، وهو فقير والملك يحتاج إلى أصالة فيه، إذ يكون أعظم في النفوس، وإلى غنى يستعبد به الرجال، ويعينه على مقاصد الملك، لم يعتبروا السبب الأقوى، وهو: قضاء الله وقدره: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء} واعتبروا السبب الأضعف، وهو: النسب والغنى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} «لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلاَّ بالتقوى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}» وقال الله تعالى: {ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم} قال الشاعر:
وأعجب شيء إلى عاقل ** فتوّ عن المجد مستأخره

إذا سئلوا ما لهم من علا؟ ** أشاروا إلى أعظم ناخره

.قال ابن عاشور:

وأَنَّى في قوله: {أنى يكون له الملك علينا} بمعنى كيف، وهو استفهام مستعمل في التعجب، تعجبوا من جعل مِثله ملكًا، وكان رجلًا فلاحًا من بيت حقير، إلاّ أنه كان شجاعًا، وكان أطول القوم، ولما اختاره صمويل لذلك، فتح الله عليه بالحكمة، وتنبأ نبوءات كثيرة، ورضيت به بعض إسرائيل، وأباه بعضهم، ففي سفر صمويل أن الذين لم يرضَوا به هم بنو بليعال والقرآن ذكر أن بني إسرائيل قالوا: أنى يكون له الملك علينا وهو الحق؛ لأنهم لابد أن يكونوا قد ظنوا أن مَلكهم سيكون من كبرائهم وقوادهم.
والسر في اختيار نبيئهم لهم هذا الملك أنه أراد أن تبقى لهم حالتهم الشورية بقدر الإمكان، فجعل مَلِكهم من عامتهم لا من سادتهم، لتكون قدمه في الملك غير راسخة، فلا يخشى منه أن يشتد في استعباد أمته، لأن الملوك في ابتداء تأسيس الدول يكونون أقرب إلى الخير لأنهم لم يعتادوا عظمة الملك ولم ينسوا مساواتَهم لأمثالهم، وما يزالون يتوقعون الخلع، ولهذا كانت الخلافة سُنَّةَ الإسلام، وكانت الوراثة مبدأ الملك في الإسلام، إذ عهد معاوية ابن أبي سفيان لابنه يزيد بالخلافة بعده، والظن به أنه لم يكن يسعه يومئذٍ إلاّ ذلك؛ لأن شيعة بني أمية راغبون فيه، ثم كانت قاعدة الوراثة للملك في دول الإسلام وهي من تقاليد الدول من أقدم عصور التاريخ، وهي سنة سيئة ولهذا تجد مؤسسي الدول أفضل ملوك عائلاتهم، وقواد بني إسرائيل لم يتفطنوا لهذه الحكمة لقصر أنظارهم، وإنما نظروا إلى قلة جدته، فتوهموا ذلك مانعًا من تمليكه عليهم، ولم يعلموا أن الاعتبار بالخلال النفسانية، وأن الغنى غنى النفس لا وفرة المال وماذا تجدي وفرته إذا لم يكن ينفقه في المصالح، وقد قال الراجز:
قدني من نصر الخُبَيْبين قَدِي ** ليسَ الإمامُ بالشحيح المُلحد

اهـ.
فإن قيل: ما الفرق بين الواوين في قوله: {وَنَحْنُ أَحَقُّ} وفي قوله: {وَلَمْ يُؤْتَ}.
قلنا: الأولى للحال، والثانية لعطف الجملة على الجملة الواقعة حالًا، والمعنى: كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق بالملك، وأنه فقير ولابد للملك من مال يعتضد به. اهـ.

.قال البقاعي:

ولما كان الخلق كلهم متساوين في أصل الجسمية وإنما جاء تفضيل بعضهم على بعض من الله فكان هو المدار علق الأمر به في قوله: {قال} أي النبي لا غيره مؤكدًا لأجل إنكارهم معظمًا عليهم الحق بإعادة الاسم الأعظم {إن الله} أي الذي له جميع الأمر فلا اعتراض عليه وهو أعلم بالمصالح {اصطفاه} قال الحرالي: والاصطفاء أخذ الصفوة- انتهى.
ولما كان ذلك مضمنًا معنى ملكه قال في تعديته {عليكم} ثم أتبع ذلك ما أودعه سبحانه مما اقتضى ذلك فقال: {وزاده} أي عليكم {بسطة في العلم} الذي به تحصل المكنة في التدبير والنفاذ في كل أمر، وهو يدل على اشتراط العلم في الملك، وفي تقديمه أن الفضائل النفسانية أشرف من الجسمانية وغيرها، وأن الملك ليس بالإرث {والجسم} الذي به يتمكن من الظفر بمن بارزه من الشجعان وقصده من سائر الأقران.
ولما كان من إليه شيء كان له الخيار في إسناده إلى غيره قال: {والله} أي اصطفاه والحال أن الملك الذي لا أمر لغيره {يؤتي ملكه} أي الذي هو له وليس لغيره فيه شيء {من يشاء} كما آتاكموه بعد أن كنتم مستعبدين عند آل فرعون {والله} الذي له الإحاطة الكاملة فلا يجوز الاعتراض عليه {واسع} أي في إحاطة قدرته وشمول عظمته وكثرة جنوده ورزقه {عليم} أي بالغ العلم، فما اختاره فهو المختار وليس لأحد معه خيرة فهو يفعل بما له من السعة في القدرة والعلم ما قد لا تدركه العقول ولا تحتمل وصفه الألباب والفهوم ويؤتي من ليس له مال من خزائن رزقه ما يشاء. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قَالَ إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ} لمّا استبعدوا تملُّكَه بسقوط نسَبِه وبفقره ردَّ عليهم ذلك أولًا بأن مَلاكَ الأمرِ هو اصطفاءُ الله تعالى وقد اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم، وثانيًا بأن العُمدة فيه وُفورُ العلم ليتمكَّنَ به من معرفة أمورِ السياسةِ، وجسامةُ البدن ليعظُم خطرُه في القلوب ويقدِرَ على مقاومة الأعداءِ ومكابدةِ الحروب وقد خصه الله تعالى منهما بحظَ وافرٍ. اهـ.

.قال الفخر:

إنه تعالى أجاب عن شبههم بوجوه الأول: قوله: {إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ} وفيه مسائل:

.المسألة الأولى: معنى الآية أنه تعالى خصه بالملك والإمرة:

واعلم أن القوم لما كانوا مقرين بنبوة ذلك النبي، كان إخباره عن الله تعالى أنه جعل طالوت ملكًا عليهم حجة قاطعة في ثبوت الملك له لأن تجويز الكذب على الأنبياء عليهم السلام يقتضي رفع الوثوق بقولهم وذلك يقدح في ثبوت نبوتهم ورسالتهم، وإذا ثبت صدق المخبر ثبت أن الله تعالى خصه بالملك، وإذا ثبت ذلك كان ملكًا واجب الطاعة وكانت الاعتراضات ساقطة.

.المسألة الثانية: قوله: {اصطفاه}:

أي أخذ الملك من غيره صافيًا له، واصطفاه، واستصفاه بمعنى الاستخلاص، وهو أن يأخذ الشيء خالصًا لنفسه، وقال الزجاج: إنه مأخوذ من الصفوة، والأصل فيه اصتفى بالتاء فأبدلت التاء طاء ليسهل النطق بها بعد الصاد، وكيفما كان الاشتقاق فالمراد ما ذكرناه أنه تعالى خصه بالملك والإمرة، وعلى هذا الوجه وصف تعالى نفسه بأنه اصطفى الرسل ووصفهم بأنهم: المصطفون الأخيار ووصف الرسول بأنه المصطفى.

.المسألة الثالثة: وراثة الإمامة:

هذه الآية تدل على بطلان قول من يقول: إن الإمامة موروثة، وذلك لأن بني إسرائيل أنكروا أن يكون ملكهم من لا يكون من بيت المملكة، فأعلمهم الله تعالى أن هذا ساقط، والمستحق لذلك من خصه الله تعالى بذلك وهو نظير قوله: {تُؤْتِى الملك مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاء} [آل عمران: 26].
الوجه الثاني: في الجواب عن هذه الشبهة قوله تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم} وتقرير هذا الجواب أنهم طعنوا في استحقاقه للملك بأمرين أحدهما: أنه ليس من أهل بيت الملك الثاني: أنه فقير، والله تعالى بين أنه أهل للملك وقرر ذلك بأنه حصل له وصفان أحدهما: العلم والثاني: القدرة، وهذان الوصفان أشد مناسبة لاستحقاقه الملك من الوصفين الأولين وبيانه من وجوه أحدها: أن العلم والقدرة من باب الكمالات الحقيقية، والمال والجاه ليسا كذلك والثاني: أن العلم والقدرة من الكمالات الحاصلة لجوهر نفس الإنسان والمال والجاه أمران منفصلان عن ذات الإنسان الثالث: أن العلم والقدرة لا يمكن سلبهما عن الإنسان، والمال والجاه يمكن سلبهما عن الإنسان والرابع: أن العلم بأمر الحروب، والقوي الشديد على المحاربة يكون الانتفاع به في حفظ مصلحة البلد، وفي دفع شر الأعداء أتم من الانتفاع بالرجل النسيب الغني إذا لم يكن له علم بضبط المصالح، وقدرة على دفع الأعداء، فثبت بما ذكرنا أن إسناد الملك إلى العالم القادر، أولى من إسناده إلى النسيب الغني. اهـ.